ما
بعد الفتحبعد تمام النصر والفتح، اتخذ السلطان لقب "
الفاتح" و"
قيصر
الروم" (
بالتركية: Kayser-i Rûm)، على الرغم من أن هذا
اللقب الأخير لم تعترف به بطركيّة القسطنطينية ولا
أوروبا المسيحية. وكان السبب الذي جعل السلطان يتخذ هذا اللقب
هو أن القسطنطينية كانت عاصمة
الإمبراطورية الرومانية، بعد أن نُقل
مركز الحكم إليها عام
330 بعد سقوط
الإمبراطورية الرومانية الغربية،
وكونه هو سلطان المدينة فكان من حقه أن يحمل هذا اللقب. وكان للسلطان
رابطة دم بالأسرة الملكية البيزنطية، بما أن كثيرا من أسلافه، كالسلطان
أورخان الأول، تزوجوا بأميرات بيزنطيات. ولم يكن
السلطان هو الوحيد الذي حمل لقب
القيصر في أيامه، إذ أن إمبراطور
الإمبراطورية الرومانية المقدسة في
أوروبا الغربية، "فريدريش الثالث"، قال آنذاك
بأنه يتحدر مباشرة من
شارلمان، الذي حصل على لقب "قيصر" عندما توّجه
البابا "ليو الثالث" عام
800،
على الرغم من عدم اعتراف
الإمبراطورية البيزنطية بهذا الأمر
عندئذ.
وكان السلطان قد أمر بحبس
الصدر الأعظم "خليل باشا"،
الذي اتهم أثناء حصار القسطنطينية بالتعامل مع العدو أو تلقيه
رشوة منهم لفضح تحركات الجيش العثماني، فحُبس لمدة أربعين
يومًا وسُملت
عيناه، ثم حُكم عليه
بالإعدام فأعدم.
[57] يروي
المؤرخ البريطاني "ستيفن رونسيمان" قصة
منقولة عن المؤرخ البيزنطي "دوكاس"، المعروف بإضفائه النكهة
الدرامية والمواصفات المؤثرة على كتاباته،
[58] أنه عندما دخل محمد الثاني القسطنطينية، أمر بإحضار العيبوسيم للدوق
الأكبر "لوكاس نوتاراس" البالغ من العمر 14 ربيعًا، ليُشبع معه
شهوته، وعندما رفض الأب تسليم ولده إلى السلطان،
أمر الأخير بقطع رأس كليهما حيث وقفا.
[59] يروي عالم
اللاهوت ورئيس أساقفة ميتيليني
"ليونارد الصاقيزي" نفس القصة في رسالة أرسلها إلى
البابا نيقولا الخامس.
[60] يرى المؤرخون المعتدلون والمؤرخون المسلمون، أن هذه الرواية عارية عن
الصحة، وأن سببها كان الصدمة العنيفة التي تعرض لها العالم الأوروبي
المسيحي عند سقوط المدينة المقدسة بيد المسلمين، حيث بذل
الشعراء و
الأدباء ما في وسعهم لتأجيج نار الحقد وبراكين الغضب في
نفوس النصارى ضد المسلمين، وعقد الأمراء والملوك اجتماعات طويلة ومستمرة
وتنادوا إلى نبذ الخلافات والحزازات والتوحد ضد العثمانيين. وكان البابا
نيقولا الخامس أشد الناس تأثراً بنبأ سقوط القسطنطينية، وعمل جهده وصرف
وقته في توحيد الدول الإيطالية وتشجيعها على قتال المسلمين، وترأس مؤتمرًا
عُقد في
روما، أعلنت فيه الدول المشاركة عزمها على التعاون فيما
بينها وتوجيه جميع جهودها وقوتها ضد العدو المشترك. وأوشك هذا الحلف أن
يتحقق إلا أن الموت عاجل البابا في
25 مارس سنة
1455، فلم تتم أي من هذه الخطط.
[61] الفتوحات
التالية[عدل] فتح
بلاد موره ومحاربة المجرإيوان دي هونيدوارا، حاكم
مملكة المجر (
1446–1453)
وترانسلفانيا (
1441-
1446).
[62]حصار بلغراد من قبل الجيش العثماني.
بعد إتمامه لترتيباته وبناء ما هُدم من أسوار القسطنطينية وتحصينها، أمر
السلطان ببناء
مسجد بالقرب من
قبر أبي أيوب الأنصاري،
جرت العادة فيما بعد أن يتقلد كل سلطان جديد
سيف عثمان الغازي الأول في هذا
المسجد،
[63] ثم سافر بجنوده لفتح بلاد جديدة، فقصد بلاد موره، لكن لم ينتظر أميراها
"دمتريوس" و"توماس"، أخوا
قسطنطين، قدومه، بل أرسلا إليه يُخبرانه
بقبولهما دفع
جزية سنوية قدرها إثنا عشر ألف دوكا. فقبل السلطان ذلك،
وغيّر وجهته قاصدًا
بلاد الصرب، فأتى "
هونيدوارا" الشجاع المجري، الملقب
"بالفارس الأبيض"،
[64] وردّ عن الصرب مقدمة الجيوش العثمانية،
[62] إلا أن الصرب لم يرغبوا في مساعدة
المجر لهم لاختلاف
مذهبهم، حيث كان المجر
كاثوليكيين تابعين لبابا
روما، والصرب
أرثوذكسيين لا يذعنون لسلطة
البابا بل كانوا يفضلون تسلط
المسلمين عليهم لما رأوه من عدم تعرضهم للدين مطلقًا. ولذلك أبرم أمير
الصرب الصلح مع السلطان محمد الثاني على أن يدفع له سنويًا ثمانين ألف
دوكا، وذلك في سنة
1454.
[63]وفي السنة التالية أعاد السلطان الكرّة على الصرب من جديد، بجيش مؤلف من
خمسين ألف مقاتل وثلاثمائة
مدفع، ومر بجيوشه من جنوب تلك البلاد إلى شمالها بدون أن
يلقى أقل معارضة حتى وصل مدينة
بلغراد الواقعة على
نهر الدانوب وحاصرها من جهة
البر والنهر. وكان هونيدوارا المجري دخل المدينة قبل إتمام الحصار عليها
ودافع عنها دفاع الأبطال حتى يئس السلطان من فتحها ورفع عنها الحصار سنة
1455. لكن وإن لم يتمكن العثمانيون من فتح عاصمة
الصرب إلا أنهم أصابوا هونيدوارا بجراح بليغة توفي بسببها بعد رفع الحصار
عن المدينة بنحو عشرين يومًا. ولما علم السلطان بموته أرسل
الصدر الأعظم "محمود باشا"
لإتمام فتح بلاد الصرب فأتمّ فتحها من سنة
1458 إلى سنة
1460.
[63]وفي هذه الأثناء تمّ فتح بلاد موره. ففي سنة
1458 فتح السلطان مدينة "كورنته" وما جاورها من
بلاد
اليونان حتى جرّد "توماس باليولوج" أخا قسطنطين من
جميع بلاده ولم يترك إقليم موره لأخيه دمتريوس إلا بشرط دفع الجزية.
وبمجرّد ما رجع السلطان بجيوشه ثار توماس وحارب
الأتراك وأخاه معاً، فاستنجد دمتريوس بالسلطان فرجع بجيش
عرمرم ولم يعد حتى تمّ فتح إقليم موره سنة
1460 فهرب توماس إلى
إيطاليا، ونُفي دمتريوس في إحدى
جزر الأرخبيل. وفي ذلك الوقت فُتحت جزر تاسوس والبروس
وغيرها من جزر
بحر الروم.
[63][65] توحيد
الأناضولوبعد عودة السلطان من بلاد
اليونان أبرم صلحًا مع إسكندر بك وترك له إقليما
ألبانيا وإيبيروس، ثم حوّل أنظاره إلى
آسيا الصغرى ليفتح ما بقي
منها، فسار بجيشه دون أن يُعلم أحدًا بوجهته في أوائل سنة
1461، فهاجم أولاً
ميناء بلدة أماستريس، وكانت مركز
تجارة أهالي
جنوة النازلين بهذه الأصقاع.
[63] ولكون سكانها تجّارًا يُحافظون على أموالهم ولا يهمهم
دين أو
جنسية متبوعهم ما دام غير متعرّض لأموالهم ولا أرواحهم،
فتحوا أبواب المدينة ودخلها
العثمانيون بغير حرب. ثم أرسل
إلى "اسفنديار" أمير مدينة
سينوب يطلب منه تسليم بلده والخضوع له. ولأجل تعزيز هذا
الطلب أرسل أحد قوّاده ومعه عدد عظيم من المراكب لحصار الميناء، فسلمها
إليه الأمير وأقطعه السلطان أراض واسعة بأقليم "بيثينيا" مكافأة له على
خضوعه. ثم قصد بنفسه مدينة
طرابزون ودخلها دون مقاومة شديدة وقبض على الملك
وأولاده وزوجته وأرسلهم إلى
القسطنطينية.
[63]محاربة
أمير الفلاخالصورة الأشهر لأمير الفلاخ،
فلاد الثالث المخوزق، على الرغم من أنها
رُسمت بعد وفاته.
[66][67]ما أن عاد السلطان إلى
القسطنطينية حتى جهز
جيشًا لمحاربة أمير الفلاخ المدعو "
فلاد دراكول الثالث المخوزق"، لمعاقبته
على ما ارتكبه من الفظائع مع أهالي بلاده والتعدّي على التجار العثمانيين
النازلين بها. فلمّا قرب منها، أرسل إليه هذا الأمير وفدا يعرض على السلطان
دفع
جزية سنوية قدرها عشرة آلاف دوكا بشرط أن يُصادق على جميع
الشروط الواردة بالمعاهدة التي أبرمت في سنة
1393 بين أمير الفلاخ آنذاك والسلطان
بايزيد الأول، فقبل السلطان محمد الثاني هذا
الاقتراح وعاد بجيوشه. ولم يقصد أمير الفلاخ بهذه المعاهدة إلا التمكن من
الاتحاد مع ملك المجر "متياس كورفينوس" ومحاربة العثمانيين.
[68] فلمّا علم السلطان باتحادهما أرسل إليه مندوبين يسألانه عن الحقيقة، فقبض
عليهما وقتلهما بوضعهما على عمود محدد من
الخشب،
الذي يُعرف بالخازوق.
[69] وأغار بعدها على بلاد
بلغاريا التابعة
للدولة العثمانية وعاث فيها فسادًا، ورجع
بخمسة وعشرين ألف أسير، فأرسل إليه السلطان رسلاً يدعونه إلى الطاعة وإخلاء
سبيل الأسرى، فلمّا مثل الرسل أمامه أمرهم برفع
عمائمهم لتعظيمه، وعند إبائهم طلبه لمخالفته لعوائدهم،
أمر بأن تُسمّر عمائمهم على رؤسهم
بمسامير من حديد.
[70]لوحة "المعركة بالمشاعل"، المناوشة الليلية بين الجيش العثماني والفلاخي،
بريشة "ثيودور آمان".
فلمّا وصلت هذه الأخبار إلى السلطان محمد استشاط غضباً وسار على الفور
بحوالي 60,000 جندي نظامي و 30,000 غير نظامي،
[71] فوصل بسرعة إلى مدينة "
بوخارست"، عاصمة الأمير، بعد أن هزمه وفرّق جيوشه،
لكنه لم يتمكن من القبض عليه لمجازاته على ما اقترفه بحق
العثمانيين و
البلغار، لهروبه والتجائه إلى
ملك المجر، فنادى السلطان بعزله ونصب مكانه أخاه "راؤول"
لثقته به بما أنه تربّى في
حضانة السلطان منذ
نعومة أظفاره، وبذا ضُمّت بلاد الفلاخ إلى الدولة
العثمانية. ويُقال أنه عند وصول السلطان محمد إلى ضواحي
بوخارست، وجد حول المدينة غابة من الخوازيق التي
عُلّقت عليها جثث الأسرى الذين أتى بهم أمير الفلاخ من بلاد
بلغاريا، وقتلهم عن آخرهم بما فيهم
الأطفال و
النساء، وكذلك الجنود العثمانيين
الذين كان قد قبض عليهم إثر مناوشة ليلية، وكان عددهم جميعا عشرين ألفاً.
[70][72] فتح
البوسنة والعداء مع البندقيةالفرمان الذي أرسله السلطان محمد الثاني إلى أهالي البوسنة الفرنسيسكان.
في سنة
1462، حارب السلطان بلاد
البوسنة لامتناع أميرها "استيفان
توماسفيتش" عن دفع الخراج،
[73] وأسره بعد معركة هو وولده وأمر بقتلهما، فدانت له جميع
بلاد البشناق. وأرسل
فرمانا إلى الفرنسيسكان من سكان تلك البلاد
يُطمئنهم بعدم تعرّض أي منهم للاضطهاد بسبب معتقداتهم الدينية، فقال:
[74][75]
"أنا السلطان محمد خان
الفاتح،
أعلن للعالم أجمع أن،
أهل البوسنة الفرنسيسكان قد مُنحوا بموجب هذا الفرمان السلطاني حماية جلالتي. ونحن نأمر بأن:
لا يتعرض أحد لهؤلاء الناس ولا لكنائسهم وصلبهم ! وبأنهم سيعيشون بسلام
في دولتي. وبأن أولئك الذين أصبحوا مهاجرين منهم، سيحظون بالأمان والحرية.
وسيُسمح لهم بالعودة إلى أديرتهم الواقعة ضمن حدود دولتنا العليّة.
لا أحد من دولتنا سواء كان نبيلاً، وزيرا، رجل دين، أو من خدمنا سيتعرض لهم في شرفهم وفي
أنفسهم !
لا أحد سوف يهدد، أو يتعرض لهؤلاء الناس في أنفسهم، ممتلكاتهم،
وكنائسهم !
وسيحظى كل ما أحضروه معهم من متاع من بلادهم بنفس الحماية...
وبإعلان هذا الفرمان، أقسم بالله العظيم الذي خلق الأرض في ستة أيام ورفع السماء بلا
عمد، وبسيدنا محمد عبده ورسوله، وجميع الأنبياء والصالحين رضوان الله
عليهم أجمعين، بأنه؛ لن نسمح بأن يُخالف أي من أفراد رعيتنا أمر هذا الفرمان !"
وفي سنة
1464، أراد "متياس كورفينوس" ملك
المجر استخلاص البوسنة من العثمانيين، فهُزم بعد أن قُتل
معظم جيشه، وكانت عاقبة تدخله أن جُعلت البوسنة ولاية كباقي ولايات
الدولة، وسُلبت ما كان مُنح لها من الامتيازات،
[70] ودخل في
جيش الإنكشارية ثلاثون ألفاً من شبانها و
أسلم أغلب أشراف أهإليها.
[76]هذا وكانت قد ابتدأت حركات العدوان في سنة
1463 بين العثمانيين والبنادقة بسبب هروب أحد
الرقيق إلى "كورون" التابعة للبندقية، وامتناعهم عن
تسليمه بحجة أنه اعتنق
المسيحية دينًا. فاتخذ العثمانيون ذلك سببًا للاستيلاء
على مدينة
آرغوس وغيرها.
[77] فاستنجد البنادقة بحكومتهم، فأرسلت إليهم عدداً من السفن محملة بالجنود،
وأنزلتهم إلى بلاد موره، فثار سكانها وقاتلوا الجنود العثمانيين المحافظين
على بلادهم وأقاموا ما كان قد تهدم من سور برزخ كورون لمنع وصول المدد من
الدولة العثمانية، وحاصروا المدينة نفسها
واستخلصوا مدينة آرغوس من
الأتراك. لكن لما علموا بقدوم السلطان مع جيش يبلغ عدده
ثمانين ألف مقاتل، تركوا البرزخ راجعين على أعقابهم، فدخل العثمانيون بلاد
موره بدون معارضة كبيرة واسترجعوا كل ما أخذوه وأرجعوا السكينة إلى البلاد.
وفي السنة التالية أعاد البنادقة الكرّة على بلاد موره دون فائدة.
[77]رسم لاسكندر بك من متحف الأوفيزي،
فلورنسا.
حفر على خشب يُظهر معركة بين قوات اسكندر بك والسلطان محمد الفاتح.
وبعد ذلك حاول البابا "بيوس الثاني" بكل ما أوتي من مهارة وقدرة سياسية
تركيز جهوده في ناحيتين اثنتين: حاول أولاً أن يقنع الأتراك باعتناق الدين
المسيحي، ولم يقم بإرسال
بعثات تبشيرية لذلك الغرض وانما اقتصر على إرسال خطاب
إلى السلطان محمد الفاتح يطلب منه أن يعتنق المسيحية، كما اعتنقها قبله
قسطنطين وكلوفيس ووعده بأنه سيكفر عنه
خطاياه إن هو اعتنق المسيحية مخلصًا، ووعده بمنحه بركته واحتضانه ومنحه
صكًا بدخول
الجنة. ولما فشل البابا في خطته هذه
لجأ إلى الخطة الثانية، خطة التهديد والوعيد واستعمال القوة، فحاول تأجيج
الحقد
الصليبي في نفوس النصارى شعوبًا وملوكًا، قادة
وجنودًا، واستعدت بعض الدول لتحقيق فكرة البابا الهادفة للقضاء على
العثمانيين، ولكن لما حان وقت النفير اعتذرت دول
أوروبا بسبب متاعبها الداخلية المختلفة.
[78] وعالج
المنون البابا بعد هذا بفترة قصيرة، إلا أن تحريضاته كانت
قد أثرت في إسكندر بك الألباني، فحارب الجنود العثمانيين وحصل بينهما عدّة
وقائع أريقت فيها كثير من
الدماء،
وكانت
الحرب فيها سجالاً. وفي سنة
1467 توفي إسكندر بك بعد أن حارب الدولة العثمانية
25 سنة دون أن تتمكن من قمعه.
[77]ثمّ بعد هدنة استمرت سنة واحدة، عادت الحروب بين العثمانيين والبنادقة
وكانت نتيجتها أن فتح العثمانيون
جزيرة "نجر بونت"، وتُسمى في كتب
الترك "أغريبوس"، وتُعرف حاليًا باسم "إيبويا"، وهي مركز مستعمرات البنادقة في
جزر الروم، وتمّ فتحها في سنة
1470.
[77] فتح
إمارة قرمان ومحاربة المغولبعد أن ساد الأمن في أنحاء
أوروبا، حوّل السلطان أنظاره إلى
بلاد القرمان ب
آسيا الصغرى ووجد سبيلا سهلا
للتدخل، وهو أن أميرها المدعو "إبراهيم" أوصى بعد موته بالحكم إلى أحد
أولاده واسمه الأمير إسحق، ولكونه كان لديه إخوة لأب أكبر منه سنا، يرغب كل
منهم بالحكم بطبيعة الأمر، تدخل السلطان محمد الثاني وحارب إسحق وهزمه
وولى محله أكبر إخوته، وعاد إلى أوروبا لمحاربة اسكندر بك، الذي كان ما زال
على قيد الحياة آنذاك، فانتهز الأمير إسحق غياب السلطان وعاود الكرّة على
قونية، عاصمة القرمان، لاسترداد ما أوصى به إليه أبوه من
البلاد، فرجع إليه السلطان وقهره. وليستريح باله من هذه الجهة أيضا، ضمّ
إمارة قرمان إلى بلاده وغضب على
وزيره "محمود باشا" الذي عارضه في هذا الأمر.
[77]وبعد ذلك بقليل زحف "أوزون حسن"،
سلطان دولة الخروف الأبيض (
بالتركية العثمانية: آق قوینلو؛
بالتركية: Akkoyunlu)، وهو أحد خلفاء
تيمورلنك، الذي كان سلطانه ممتدا على كافة البلاد
والأقاليم الواقعة بين نهري أمودريا و
الفرات، وفتح مدينة "توقات" عنوة ونهب أهلها.
[79] فأخذ السلطان في تجهيز جيش جرّار وأرسل لأولاده "داوود باشا" بكلر بك
الأناضول، و"مصطفى باشا" حاكم القرمان، يأمرهما بالمسير لمحاربة العدوّ،
فسارا بجيوشهما إليه وقابلا جيش "أوزون حسن" على حدود إقليم الحميد، وهزماه
شر هزيمة في معركة بالقرب من مدينة "
إرزينجان" سنة
1471. وبعدها، في أواخر صيف عام
1473، سار إليه السلطان نفسه ومعه مائة ألف جندي
وأجهز على ما بقي معه من الجنود بالقرب من مدينة "گنجه"،
[80] ولم يعد "أوزون حسن" لمحاربة
الدولة العثمانية بعد ذلك، إذ أن هذه
المعركة كانت قد قضت على سلطة دولته، ولم يعد للعثمانيين من عدو لجهة
الشرق، حتى بروز الشاه "
إسماعيل الصفوي" و
الدولة الصفوية في وقت
لاحق.
[81] وفي هذه الأثناء كانت الحرب متقطعة بين العثمانيين والبنادقة الذين
استعانوا
ببابا روما وأمير
نابولي، وكان النصر فيها دائماً للعثمانيين، ولم يتمكن
البنادقة من استرجاع شيء مما أخذ منهم.
محاربة
البغدان وإنهاء الصراع مع البنادقةخريطة لمعركة "فاسلوي" التي هُزم فيها الجيش العثماني.
القديس استيفان الرابع الكبير.
في سنة
1475 أراد السلطان فتح
بلاد البغدان، وهي
المنطقة الشرقية من
رومانيا المتاخمة لحدود
روسيا والمعروفة أيضاً باسم "
مولدوفا"، فأرسل إليها جيشاً بعد
أن عرض دفع الجزية على أميرها المسمى "
استيفان الرابع" ولم يقبل. وقعت معركة عنيفة
بين الطرفين بتاريخ
10 يناير من نفس العام عُرفت
بمعركة "فاسلوي"، كنية
بالمدينة القريبة من الموقع. وصل عدد الجنود العثمانيين
إلى 120,000 جندي، بينما بلغ عدد الجنود البغدان 40,000 جندي، بالإضافة إلى
بعض القوات المتحالفة الأصغر حجما وبعض
المرتزقة.
[82] وبعد قتال عنيف قُتل فيه جنود كثر من الجيشين المتحاربين، انهزم الجيش
العثماني وعاد دون فتح شيء من هذا الإقليم. ويذكر المؤرخون أن "استيفان
الرابع" قال أن هذه الهزيمة التي لحقت بالعثمانيين "هي أعظم هزيمة حققها
الصليب على
الإسلام".
[83] وقالت الأميرة "مارا" التي كانت زوجةً للسلطان
مراد الثاني، والد الفاتح، سابقاً، لمبعوث بندقي
أن هذه الهزيمة هي أفظع الهزائم التي تعرّض لها العثمانيون في التاريخ.
[84] وبذلك اشتهر "استيفان الرابع" أمير البغدان بمقاومة العثمانيين، فخلع عليه
البابا "
سيكستوس الرابع" لقب "بطل
المسيح" (
باللاتينية: Athleta Christi) و"الحامي الحقيقي
للديانة المسيحية" (
باللاتينية: Verus christiane fidei aletha).
[85]ولما بلغ خبر هذه الهزيمة
آذان السلطان عزم على فتح
بلاد القرم حتى يستعين بفرسانها المشهورين
في القتال على محاربة البغدان.
[86] وكان لجمهورية
جنوة مستعمرة في
شبه جزيرة القرم، في
مدينة "كافا"، فأرسل السلطان إليها أسطولا بحريّا، ففتحها بعد حصار ستة
أيام، وبعدها سقطت جميع الأماكن التابعة لجمهورية جنوة. وبذلك صارت جميع
شواطئ
القرم تابعة للدولة العثمانية ولم
يُقاومها
التتار النازلون بها، ولذلك اكتفى السلطان بفرض الجزية
عليها.وبعد ذلك فتح الأسطول العثماني
ميناء "آق كرمان"، ومنها أقلعت السفن الحربية إلى مصاب
نهر الدانوب لإعادة الكرّة
على بلاد البغدان، بينما كان السلطان يجتاز نهر الدانوب من جهة البر بجيش
عظيم، فتقهقر أمامه جيش البغدان، على الرغم من صدّه لعدّة هجمات عثمانية
بنيرانه،
[87] لعدم إمكانية المحاربة في
السهول،
وتبعه الجيش العثماني حتى إذا أوغل خلفه في
غابة كثيفة يجهل مفاوزها، انقض عليه الجيش البغداني،
فاشتبك مع قوات
الإنكشارية التي هزمته شر هزيمة، في معركة أطلق
عليها اسم "معركة الوادي الأبيض". فانسحب "
استيفان الرابع" إلى أقصى شمال غربي بلاده،
والبعض يقول أنه لجأ إلى
المملكة البولندية، حيث أخذ يجمع
جيشا جديدا.
[88] ولم يستطع السلطان محمد فتح الحصون الرئيسية البغدانية بسبب المناوشات
الصغيرة المستمرة التي تعرض لها الجيش العثماني من قبل الجنود البغدان،
ولانتشار
المجاعة ثم
الطاعون بين أفراد الجيش، مما اضطر السلطان لأن يسحب
قواته ويعود إلى
القسطنطينية دون فتح البلاد.
[89]وفي سنة
1477 أغار السلطان على بلاد البنادقة ووصل إلى
إقليم "
فريولي" بعد أن مرّ بإقليميّ "
كرواتيا" و"
دالماسيا"، فخاف البنادقة على مدينتهم الأصلية
وأبرموا الصلح معه تاركين له مدينة "كرويا"، التي كانت عاصمة "اسكندر بك"
الشهير، فاحتلها السلطان ثم طلب منهم مدينة "إشقودره"، ولمّا رفضوا التنازل
عنها إليه حاصرها وأطلق عليها
مدافعه ستة أسابيع متوالية بدون أن يُضعف قوّة سكانها
وشجاعتهم،
[90] فتركها لفرصة أخرى وفتح ما كان حولها للبنادقة من البلاد والقلاع حتى صارت
مدينة "إشقودره" منفصلة كليّا عن باقي بلاد البنادقة، وكان لا بد من فتحها
بعد قليل لعدم إمكان وصول المدد إليها، ولذا فضّل البنادقة أن يبرموا
صلحاً جديداً مع السلطان ويتنازلوا عن "إشقودره" مقابل بعض الامتيازات
التجارية.
[90] وتمّ الصلح بين الفريقين على ذلك وأمضيت به بينهما معاهدة في يوم
28 يناير سنة
1479م، الموافق
5 ذو القعدة سنة
883هـ، وكانت هذه أول خطوة خطتها
الدولة العثمانية للتدخل في شؤون
أوروبا، إذ كانت
جمهورية البندقية حينذاك أهم دول أوروبا لا سيما في التجارة
البحرية، وما كان يُعادلها في ذلك إلا جمهورية
جنوة.